أزمة أوروبا- بين إرهاق ما بعد الحداثة وضياع الهوية السياسية

المؤلف: د. خالد حاجي10.27.2025
أزمة أوروبا- بين إرهاق ما بعد الحداثة وضياع الهوية السياسية

لطالما قال الرئيس الفرنسي الأسبق، شارل ديغول، قولته الشهيرة: "السياسة مسألة جلل، وأجلّ من أن تُترك رهن إشارة الساسة". وفي تقديرنا، يكمن صميم الأزمة التي تعصف بأوروبا اليوم، كما يتضح جليًا من المناقشات التي احتدمت قبيل الانتخابات الأوروبية، في كون السياسة قد أُحيلت إلى السياسيين. والمقصود بهؤلاء الساسة، أولئك الذين يعمي أعينهم الصراع المحتدم – سعيًا وراء تحقيق المكاسب السياسية الزائلة – عن التأمل العميق في الواقع، هذا التأمل الذي ينهض به مَن يستشرف آفاق المستقبل.

ذات يوم، طالعت في صحيفة ألمانية نبأً مفاده أن المستشار الألماني الراحل، هلموت شميت، كان يعتزل الناس، وينزوي بصحبة ثلة من الشعراء لمدة ثلاثة أيام في كل عام، ينقطع خلالها عن صخب الواقع السياسي وهمومه، وذلك بهدف تجديد رؤيته للأشياء، وصقل بلاغته السياسية. وفي اعتقادنا أنه لا سبيل لمَن أراد أن يوسع آفاق نظره في الأمور، وأن يجدد وعيه السياسي، سوى أن يأخذ مسافة نقدية من الأحداث اليومية المتسارعة التي تجعل الوعي يرزح تحت وطأة ضغط اللحظة الآنية، بعيدًا عن رحابة التأمل والتدبر والتفكر العميق.

إن المتفحص عن كثب للحملات الترويجية التي سبقت الانتخابات الأوروبية الجارية حاليًا، لا يسعه إلا أن تستبد به الحيرة والدهشة، ويعجز عن استيعاب ما آلت إليه الخطابات السياسية من تسطيح مُخجلٍ، ومن أفكار مبتذلة لا تفتح أي أفق جديد. بل إن المتأمل الفاحص في هذه الخطابات يشعر بمرارة أن ديمقراطية أوروبا تمر بمنعطفات عصيبة، وأن المواطن الأوروبي يفتقر بشدة إلى نقاط الاسترشاد الضرورية في هذا المشهد السياسي البائس، ممّا يجعله يميل إلى أفكار جاهزة ذات نزعة شعبوية متطرفة.

والحقيقة المرة أن اللحظة التاريخية الراهنة التي تمر بها القارة الأوروبية، هي لحظة ضعف وأزمة حقيقية، بل هي لحظة تنذر بالتفكك والانقسام أكثر مما تبشر بمزيد من الوحدة والتماسك. ويشعر بعض الباحثين والمفكرين المتعمقين أن مظاهر انسداد الأفق السياسي في القارة الأوروبية تستلزم إجراء تحليل دقيق لحالة نفسية عامة متفشية. فلقد سبق للعالم سيغموند فرويد أن كتب بإسهاب عن حالة القلق الوجودي الذي يسكن الحضارة الغربية في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي. واليوم، تطالعنا دراسات قيّمة يرى أصحابها أن الابتذال السياسي المتفاقم ما هو إلا تجلٍ من تجليات حالة نفسية قائمة ومستحكمة.

ولعلّ من الكتب المهمة التي تستوقف القارئ المتأمل كتاب "مجتمع الإرهاق" لصاحبه بيونغ-شول هان، وهو باحث ألماني من أصول كورية جنوبية. وبالرغم من الأسلوب الذي اتسم بالصعوبة في بعض الأحيان، وبالرغم من نزوع الكاتب نحو التكرار الذي يثير الملل أحيانًا، تظلّ فكرته محتفظة برونقها وأهميتها، كما يظلّ جهازه المفاهيمي المتكامل صالحًا لتفسير ما آلت إليه الأوضاع في أوروبا تفسيرًا عميقًا وشاملًا.

وينبهنا هان بذكاء إلى أن الأزمة أعمق بكثير من أن تكون سياسية فحسب. بل هي بالأحرى أزمة إنسان ما بعد الحداثة، هذا الإنسان الذي تحرر من قيود المرجعيات التي كانت تثقل كاهله في زمن الحداثة، ليكتشف في نهاية المطاف أنه قد صار هو ذاته المرجعية العليا، الأمر الذي فتح أمامه آفاقًا واسعة للحركة والفعل والإبداع. غير أنّ هذه الآفاق الجديدة، وإن وسّعت أمامه مجال الفعل والتحرك، فقد أورثته في المقابل حالة نفسية جديدة سِمَتها القلق والاكتئاب والنقص الحاد في التركيز، كما أفضت به إلى الإرهاق والتعب الدائمين نتيجة للإفراط في النشاط المحموم الذي أصبح ملازمًا لتحرره من القيود المذكورة.

ويخلص هان في نهاية المطاف إلى القول إنّ الإرهاق والتعب هما صفتان ملازمتان لإنسان ومجتمعات ما بعد الحداثة بالضرورة. ويشترك هان مع الباحثة بينيديكت ديلورم-مونتيني، صاحبة كتاب «لحظة ما بعد الحداثة » في محاولة جادة لتفسير صعوبة اللحظة التاريخية الراهنة التي تمر بها أوروبا والغرب عمومًا بردها إلى منظومة ما بعد الحداثة الفكرية والفلسفية والفنية. إن كتاب «ديلورم-مونتيني» يمثل في جوهره محاولة ناجحة لإثبات العلاقة الوثيقة بين ما يختصم اليوم في المجتمعات الأوروبية من مطالب متضاربة، وما يعتمل فيها من نزعات هُوياتية ونظريات النوع الاجتماعي، من ناحية، وبين النزعة التفكيكية التي عرفتها أوروبا منذ سبعينيات القرن الماضي، من ناحية أخرى.

و نستشفُّ بوضوح من المؤلَّفَيْن المذكورَين آنفًا أن أزمة أوروبا اليوم تعود جذورها إلى منظومة فكرية وفلسفية ما بعد حداثية، كما نفهم من خلالهما أن جزءًا كبيرًا مما تعانيه أوروبا والغرب عمومًا مصدره قصور بيّن في تمثل الخطاب السياسي لروح العصر، هذا العصر "ما بعد حداثي" الذي لا يكاد الإنسان يسعد فيه بتوسع مجالات الحرية، حتى يجد نفسه يشقى بما يُقْبل عليه من أفعال لا تنضبط بضابط مجتمعي أو ديني أو أخلاقي.

إن القول بأن المجتمعات الأوروبية قد دخلت فعلًا مرحلة العياء والتعب والإرهاق في زمن ما بعد الحداثة، يجد ما يدعمه بقوة في دراسات سواء حضارية أو ثقافية أو إستراتيجية متعمقة، نذكر منها على سبيل المثال الدراسة المنجزة من قبل الباحث المتخصص في شؤون الاندماج الأوروبي، بيير هاروش، والتي ضمنها كتابه القيم « داخل كور العالم: كيف تولد أوروبا من تصادم القوى الكبرى ».

ويتمحور الكتاب حول فكرة جوهرية مفادها أن أوروبا اليوم لم تعد تصنع التاريخ كما كانت تفعل في الماضي، وأنها بعد أن صنعت العالم في الماضي، منذ القرن السادس عشر، أصبحت اليوم صنيعة هذا العالم المتغير. يقول هاروش بمرارة إن "أوروبا شكلت العالم وهي تجوبه طولًا وعرضًا، وهي تستغله وتستعمره، لكنها في هذه الأثناء قامت كذلك بربط هذا العالم بذاته وتأليبه ضدها". واليوم، ويا للعجب، صار مستقبل القارة العجوز مرهونًا إلى حد كبير بما سيؤول إليه الصراع الصيني الأميركي المحتدم، لا بما يستشرفه الأوروبيون أنفسُهم من رؤى وأفكار.

إن الإنسان الأوروبي اليوم، بحسب "هاروش"، هو إنسان لم يعد شغله الشاغل هو البحث عن مكانة مرموقة له، وعن دور مؤثر يمكن أن يقوم به في العالم، بل أصبح جلّ اهتمامه هو البحث المضني عن ذاته في محيط واسع لم يعد تحت سيطرته كما كان في السابق. ومما يزيد من شعوره بتفاقم الأوضاع المحزنة، اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية المدمرة على حدوده الجغرافية، وعجز أوروبا المشين عن التعامل مع هذه الحرب بحزم ووضوح وثقة بالنفس، بعيدًا عن إملاءات الولايات المتحدة الأميركية، أو الانقسامات الداخلية العميقة، وتحديات القطب الصيني والروسي الصاعدين.

ويؤكد "هاروش" بعمق أن التغير الحاصل اليوم ليس تغيرًا سياسيًا سطحيًا فحسب؛ بل إنه في حقيقة الأمر تغير عميق يقتضي وعيًا تاريخيًا جديدًا ومختلفًا. ويشير في هذا السياق بالتحديد إلى دعوة المؤرخ دافيد موتاديل لتشبيك تاريخ أوروبا بتاريخ العالم بشكل وثيق قصد بلوغ تمثُّل صحيح وواقعي لمكانة الاتحاد الأوروبي في العالم المتغير، وقصد تخليص النفسية الأوروبية مما علق بها من أوهام العظمة الزائفة جراء حقب طويلة من التمركز المفرط حول الذات.

وهذه الأبحاث والدراسات المذكورة في سياق حديثنا هنا تجلي لنا بوضوح الحاجة الماسة إلى النظر إلى الأمور من زوايا مختلفة ومتنوعة، إضافة إلى الزاوية السياسية المعتادة.

والمفروض في الانتخابات الأوروبية أن تمثل فرصة سانحة للخوض العميق في التوجهات الفكرية الكبرى التي تحدد طبيعة علاقة الأوروبيين بذواتهم وبالعالم من حولهم. غير أن الواقع المرير اليوم أصبح لا يسمح بتحقيق ذلك، لأننا، ومنذ ما يزيد عن عقدين من الزمن، دخلنا مرحلة جديدة من مراحل التدبير السياسي الخطير، وهي المرحلة التي يطلق عليها الخبير جوليان لو موف تسمية "إمبراطورية الطوارئ، أو نهاية السياسة". ويحاول "لو موف" في هذا الكتاب المثير للجدل الوقوف بتفصيل عند المفاهيم الأصلية التي يقوم عليها التدبير السياسي الذي يعتمد في جوهره على الطوارئ والأزمات، مثل الأحداث الإرهابية المروعة والأوبئة الفتاكة، لتعطيل القوانين وشلّ مظاهر الحياة الطبيعية داخل المجتمع.

ومَن يصغِ باهتمام إلى ممثلي التكتلات السياسية الكبرى داخل البرلمان الأوروبي وهم يدافعون ببسالة عن مواقفهم وآرائهم السياسية المتباينة، يدركْ تمام الإدراك كيف تحوّلت الحرب الروسية الأوكرانية إلى طارئ يتم استغلاله لتدبير اللحظة السياسية الراهنة. فتحت ذريعة واهية هي التصدي للخطر الوشيك للحرب التي تدق الأبواب، تُمَرر أسوأ الأفكار وتعتمد أقبح القرارات وتستباح المحظورات.

لقد استوقفني شخصيًا رد مستشارة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، على سؤال هام بخصوص احتمال تحالف التكتل السياسي الذي تمثله، مع أحزاب اليمين المتطرف الصاعدة بقوة. فعوض التأكيد القاطع، كما كان معهودًا في السابق، على وجود خطوط حمراء صارمة تجعل التحالف مع أحزاب اليمين المتطرف أمرًا مستحيلًا، اكتفت بأجوبة مبهمة وملتوية لتترك الباب مواربًا، وتترك الأمر مفتوحًا على جميع الاحتمالات الممكنة. وفي هذا برهان قاطع على أن الانتخابات الأوروبية القادمة كفيلة بأن تعيد تشكيل المشهد السياسي الأوروبي برمته، وأن تقطع بشكل نهائي مع مرحلة الاعتدال والانفتاح والوسطية التي طالما تغنت بها أوروبا.

وتشهد الحملات الترويجية التي تسبق الانتخابات الأوروبيّة صراعًا محمومًا حول جملة من القضايا التي تعتبر جوهرية ومصيرية، كقضيّة إنهاء حقّ الفيتو كخطوة ضرورية لتسهيل الإجماع الأوروبي حول أمور مصيريّة. فلا يخفى على أحد أن الدعوة الملحة إلى إلغاء هذا الحق تفصل بوضوح بين دعاة التمسك بالسيادة الوطنية، الذين يحرصون بشدة على استقلالية القرار وعدم الذوبان والتماهي المطلق مع قرارات الاتحاد الأوروبي، وبين دعاة تقوية أوروبا والذهاب بها قدمًا باتجاه نظام فدرالي واسع قد يصل في نهاية المطاف إلى حدود اختيار رئيس واحد لأوروبا بأكملها.

وبين هذا التيار وذاك، يقف العقل الأوروبي المسكين حائرًا تائهًا؛ وكيف لا يحتار وينقسم على ذاته! تجلي لنا مجلة «علوم إنسانية» الشهيرة في عددها الصادر في شهر يوليو/تموز 2014 مظهرًا صارخًا من مظاهر الحيرة العميقة التي تستبدّ بالإنسان الأوروبي منذ نعومة أظفاره، حيث تضمن ملف العدد صورة معبرة لطفل صغير لم يتجاوز السنتين من عمره، وهو يضع يده الصغيرة فوق شفتيه، علامة واضحة على التساؤل العميق وصعوبة الاختيار، وإلى جانب الصورة يظهر عنوان الغلاف الرئيسي: "أُصْبِح وَلَدًا، أُصْبِح بِنتًا".

ومثلما يحار الطفل الصغير في السياق الأوروبي المعقد اليوم بين أن يصبح ذكرًا أو أنثى، ولدًا أو بنتًا، كذلك يحار ويتردد أمام التكتلات السياسية المتنافسة المشاركة في الانتخابات الأوروبية أيها يختار وينتخب.

و نخلص أخيرًا من هذا التحليل المستفيض إلى التأكيد القاطع على أن الانتخابات الأوروبية الجارية ليست شأنًا عاديًا متعلقًا بالسياسة وحدها؛ بل هو شأن أعظم وأجلّ من أن يُترك للسياسيين وحدهم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة